الأحد، 22 فبراير 2009

كتاب معالم ومنارات في تنزيل احاديث الفتن (( مهم ورائع ))

في تنزيل أحاديث الفـتن والملاحم وأشراط الساعة

على الوقائع والحوادث

راجعه عدد من طلبة العلم

بقلم

عبدالله بن صالح العجيري


البريد الإلكتروني:


abosaleh95@islamway.net

المقدمة


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد..
قال الله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)


إن من عظمة هذا الدين الخاتم كماله، وإن من مظاهركماله تهيئته لنفوس أصحابه لما يستقبلونه من حوادث ووقائع، علوية وسفلية، كبار وصغار، ليسيروا من ثم على نور وبصيرة يعرفون من خلال خبر الصادق ما كان وما سيكون مما هو نافع لهم في دنياهم وأخراهم، يبتدأ تاريخهم من آدم بل ومن قبل آدم ويستمر إلى قيام الساعة وما يجري بعد قيام الساعة، وكان من جملة تلك النصوص الشرعية المتحدثة عن أمور المستقبل ما يتعلق بذكر الفتن والملاحم وأشراط الساعة، مما يعطي المسلم تصورا عما يستقبله منها ليحذر ويتقي فينجو، نعم إن أمة الإسلام اليوم تحتاج إلى أن تراجع هذه النصوص الشرعية لتجد السبيل للخروج مما هي فيه من أزمات وفتن يرقق بعضها بعضا، فـ(قد أحاطت هذا الزمان وأهله فتن كثيرة لا تحصى، خصوصا ذهاب دولة الإسلام، وحكومة الإيمان، وغربة الدين، وفشو البدع والمضلين، وقلة العلم، وكثرة الجهل، وإيثار الخلق على الحق، والعاجلة على الآجلة، وترك الغزو ، والقنوع بما في أيدي الناس، والانهماك في أمر المعاش، والإعراض عن المعاد، وكثرة التحاسد ، والمفاسد التي أسرت أفراح القلوب، وشقت قلوب المؤمنين قبل الجيوب، فأصبحوا في حال يعدون المنايا أمانيا، ويرون لضعف الدين ووهن اليقين الموت طبيبا شافيا، إذا عثرت خيول الفتن والنقم، وولت جنود الدعة والنعم، وصارت الدنيا كلها آفات وبلايا، وكم في الزوايا من رزايا)، ومن الرزايا ما نراه من كتابات تخرج بين الفينة والأخرى قد اتخذت من نصوص الفتن والأشراط والملاحم مرتعا خصبا لعبث العابثين وظنون المتخرصين، يقولون ما لا يعلمون، ويهرفون بما لايعرفون، في كهانة مقنعة تلبس لبوس النص ، والنص ينادي عليها بالبراءة، قد رسموا صورة الحاضر والمستقبل بما جادت به عقولهم المريضة، ثم حاولوا أن يجعلوا من تلك النصوص أصباغا يلونون بها تلك الصور فأساؤوا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، قد ضمنوا صورهم تلك كتبا يلقونها على الناس مع كل فتنة ومع كل أزمة تمر بالأمة تقول لهم بلسان الحال هيت لكم فلا يجدون بدا من أن يقولوا : لبيك، إنه باب جديد من أبواب تحريف النصوص ،يفتح بل يكسر لينفذ من خلاله من يريد حرف المسار الصحيح للإصلاح في تثبيط عجيب عن العمل ودعوة للقعود عن النصرة وفي ترقب لخروج مصلح من هنا أو مهدي من هناك، يبتدأ هو لا هُم مسيرة الإصلاح، فوا أسفا، أبالظنون الكاذبة والخيالات الباطلة تعطل الأعمال والشرائع، إنه هروب اليائس المحبط من واقعه إلى عالم من الأحلام والأماني يعيش فيه ويتعلل به مما هو فيه، يحسب أنه بذلك قد صنع شيئا، وحقيقة الأمر أنه قد صنع (لا شيء)!، ولا تستطل الكلام فإنها نفثة مصدور، والأمر من قبل ومن بعد فوق ما أقول، وليس راء كمن سمع ولا من وقف على تصانيف القوم كمن لم يقف عليها.
وهذه كلمات في محاولة لتأصيل هذه المسألة، تنزيل أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة على الواقع في ظل ضوابط مستنبطة من تصرفات أهل العلم في القديم والحديث عسى أن تكون محل نفع وإفادة، وقد قسمت البحث إلى جزئين مقدمات لا بد منها يتلوها المنارات والمعالم التي يجب مراعاتها في عملية تنزيل نصوص الفتن والملاحم وأشراط الساعة على الواقع، وليس المقصود تتبع ما كتب في هذه المسائل من كتابات هي محل للنقد والتخطئة فإن هذا يطول بل (لا مطمع لأحد في حصرها، لأنها خطأ وباطل، والخطأ لا تنحصر سبله، ولا تتحصل طرقه، فاخط ما شئت، وإنما الذي تنحصر مداركه، وتنضبط مآخذه، فهو الحق، لأنه أمر واحد مقصود، يمكن إعمال الفكر والخواطر في استخراجه، وما مثل هذا إلا كالرامي للهدف، فإن طرق الإصابة تنحصر وتتحصل من إحكام الآلات، وأسباب النزع، وتسديد السهم، فأما من أراد أن يخطئ الهدف، فجهات الأخطاء لا تنحصر ولا تنضبط، إلا أن نذكر من ذلك حسب الإمكان)..

والله أعلم..
وإلى المقصود
من حِكَم الشريعة في إيراد نصوص الفتن والأشراط

1-الابتلاء والامتحان:
إن أحاديث الملاحم وأشراط الساعة والفتن في الجملة من الغيب الذي يجب الإيمان به، والذي يثيب الله على الإيمان به العباد، وبغيره لا يكون المؤمن مؤمنا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)، فلا يصح إيمان العبد إلا بالإيمان بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من أحكام شرعية ومغيبات ماضية وحاضرة ومستقبلية والتسليم له بالجميع، وقد اعتنت كتب العقائد بالتنبيه إلى هذه المسألة على وجه العموم، وما يتعلق بأشراط الساعة على وجه الخصوص، يقول الإمام الطحاوي مثلا: (ونؤمن بأشراط الساعة من خروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام من السماء، ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها، وخروج دابة الأرض من موضعها)، ويقول الإمام ابن قدامة في لمعة الاعتقاد: (ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا، نعلم أنه حق وصدق، وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه، ولم نطلع على حقيقة معناه) إلى أن يقول: (ومن ذلك أشراط الساعة مثل خروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام فيقتله، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وأشباه ذلك مما صح به النقل).


2-التحذير مما يستقبل الناس والإرشاد إلى ما يفعلون:

المتأمل في كثير من الأخبار المتكلمة عن أشراط الساعة يجدها قد وردت بذم بعض ما سيقع من أشراط، كما جاءت بالتحذير من الدخول في مختلف الفتن الكبيرة والصغيرة، العامة والخاصة، فالمؤمن الكيس هو من اعتزل تلك الفتن وحاذر تلك الأشراط لئلا يكون من أهلها، قال البرزنجي: (وأرسله - يعني النبي صلى الله عليه وسلم- كالمسبحة والوسطى نذيرا، فأخبر عن جميع الفتن والأشراط الكائنة قبلها فاسأل به خبيرا، فبلغ وبالغ، وحذر أمته الفتن عموما والدجال خصوصا تحذيرا).
وقال: (فأكثر النبي صلى الله عليه وسلم من بيان أشراطها وأماراتها وما بين يديها من الفتن القريبة والبعيدة ، ليكون أهل كل قرن على حذر منها، متهيئين لها بالأعمال الصالحات، غير منهمكين في الشهوات واللذات).
وهذا المعنى ظاهر جلي في نصوص الأشراط والفتن، والتحذير والإرشاد يقع فيها باللفظ الصريح، وبالتنبيه و الإشارة، فهذه الأخبار ليست أخبارا مجردة تحكي الوقائع ولا تهدي العباد، بل الهداية فيها منصوص عليها والعمل الواجب مبين، ومن نظر في أحاديث الدجال وتتبعها وجد من الأوامر والإرشادات والاحتياطات الشيء الكثير كالأمر بالاستعاذة منه، والنأي عنه، وقراءة فواتح سورة الكهف، ودخول ناره لا جنته، وكيف تؤدى الصلاة في وقته إلى غير ذلك مما يؤكد هذا المعنى، ومما يبين هذا المعنى كذلك كثير من أحاديث الفتن، كحديث عثمان الشحام قال: انطلقت أنا وفرقد السبخي إلى مسلم بن أبي بكرة وهو في أرضه، فدخلنا عليه فقلنا: هل سمعت أباك يحدث في الفتن حديثا، قال: نعم، سمعت أبا بكرة يحدث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون فتن ألا ثم تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي فيها والماشي فيها خير من الساعي إليها ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه) قال: فقال رجل: يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: (يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج إن استطاع النجاة اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت)، قال: فقال رجل: يا رسول الله أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال: (يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار)، والأحاديث في هذا الباب كثيرة وإنما المقصود التنبيه والإشارة ليس إلا.
وقد فقه الصحابة هذا المعنى ولذا فقد كانوا حريصين على سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عما يصنعون في مختلف الفتن والأحداث التي يخبرهم بها صلى الله عليه وسلم فمن ذلك مثلا ما صح عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كيف بكم وبزمان أو يوشك أن يأتي زمان يغربل الناس فيه غربلة تبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فكانوا هكذا) وشبك بين أصابعه، فقالوا: وكيف بنا يا رسول الله؟ قال: (تأخذون ما تعرفون وتذرون ما تنكرون وتقبلون على أمر خاصتكم وتذرون أمر عامتكم).
ومما يدل على عنايتهم بما ينفعهم من أحكام تلك الأيام حديث النواس بن سمعان في الدجال وفيه: (قلنا يا رسول الله وما لبثه في الأرض؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: (أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم) قلنا: يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: (لا اقدروا له قدره)، فلم يعارضوه صلى الله عليه وسلم بمعقول باطل وإنما إيمان وتسليم، وسؤال عما ينفع.


3-الاستعداد لقيام الساعة:


إن من فائدة هذه الأخبار إشعار العباد بقرب المعاد ليستعدوا له الاستعداد المناسب إذ هو المقصود أصالة بذكر هذه النصوص، فهي أمارات وعلامات وأشراط لقيام الساعة يستدل من خلالها على قرب الساعة، قال الطيبي: (الآيات أمارات للساعة إما على قربها وإما على حصولها)، واستشعار هذا القرب يوجب من العبد مزيد سعي وإعداد لهذا اليوم العظيم، يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: متى الساعة؟ فقال: (ماذا أعددت لها)؟ وفي لفظ: (ويلك ما أعددت لها)، فتأمل حسن إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم للسائل وصرفه إلى ما يعنيه ويفيده من شأن الساعة وهي قضية الإعداد، يقول الحافظ ابن حجر: (والحكمة في تقدم الأشراط إيقاظ الغافلين، وحثهم على التوبة والاستعداد)، فأشراط الساعة مواعظ تزجر القلوب لتقبل على علام الغيوب جل وعلا، كلما وقع شرط منها فهي خطوة يخطوها الناس جميعا نحو الآخرة فالسعيد من سار في هذه الدنيا متذكرا للآخرة عاملا لها والشقي من أعرض عن أخراه قد عمي عنها ونسيها (نسوا الله فنسيهم).

4-أن هذه الأخبار من دلائل النبوة:

إن هذه الأخبار تعد من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه، فإن المرء إذا رأى أمرا قد تحقق من تلك الأخبار ازداد إيمانه ويقينه بصدق النبي صلى الله عليه وسلم في نبوته، وأنه رسول الله حقا، ونطق بلسان الحال أو المقال صدق الله ورسوله، إذ لا يصح لبشر أن يخبر عن تلك المغيبات على هذا النحو المفصل، والمستيقن، ثم هي تتحقق مرة من بعد مرة، إلا ويكون ذلك بوحي صادق، نقل المناوي عن بعض أهل العلم قولهم: (هذا وما أشبهه من أحاديث الفتن من جملة معجزاته الاستقبالية التي أخبر أنها ستكون بعده وكانت وستكون وقد أفردها جمع بالتأليف)، ولو أنك تتبعت أقوال أهل العلم في كون مختلف إشاراته صلى الله عليه وسلم للحوادث المستقبلية ووقوعها كما أخبر من معجزاته صلى الله عليه وسلم ومن دلائل نبوته لأعياك ذلك ولأتعبك التتبع، ولذا ترى المصنفين في دلائل النبوة -كالبيهقي مثلا- يوردون جملة من هذه الأخبار في مصنفاتهم، وفي هذه الدلائل زيادة لإيمان المؤمنين، وإقامة للحجة على الكافرين، ومن لطائف الأخبار المؤكدة لهذا المعنى ما ثبت عن طارق بن شهاب قال: كنا عند عبد الله -ابن مسعود-جلوسا فجاء رجل فقال: قد أقيمت الصلاة. فقام وقمنا معه، فلما دخلنا المسجد رأينا الناس ركوعا في مقدم المسجد فكبر وركع وركعنا، ثم مشينا وصنعنا مثل الذي صنع، فمر رجل يسرع، فقال: عليك السلام يا أبا عبد الرحمن، فقال: صدق الله ورسوله، فلما صلينا ورجعنا دخل إلى أهله جلسنا فقال بعضنا لبعض: أما سمعتم رده على الرجل صدق الله وبلغت رسله، أيكم يسأله، فقال طارق: أنا أسأله، فسأله حين خرج فذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة وفشو التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة وقطع الأرحام وشهادة الزور وكتمان شهادة الحق وظهور القلم).

5-تغذية فضول الإنسان:

إن في كيان الإنسان حاجة فطرية وفضولا يدفعه للتعرف على المستقبل وما يتعلق به من أحداث، ولذا فقد وجد في الناس في القديم والحديث من اتخذ من الكهانة والعرافة والتنجيم وغير ذلك من طرائق أهل الانحراف مطية يركبها ليشرف على شيء من المغيبات -زعم- وليسد هذه الحاجة في نفسه، ولا تزال هذه السوق المبنية على الدجل والكذب والتخريف سوقا رائجة يقبل عليها كثير من الناس بمختلف عقلياتهم ومستوياتهم، يقول شيخ الإسلام: (وباب الكذب في الحوادث الكونية أكثر منه في الأمور الدينية، لأن تشوف الذين يغلبون الدنيا على الدين إلى ذلك أكثر، وإن كان لأهل الدين إلى ذلك تشوف، لكن تشوفهم إلى الدين أقوى، وأولئك ليس لهم من الفرقان بين الحق والباطل من النور ما لأهل الدين، فلهذا كثر الكذابون في ذلك ونفق منه شيء كثير).
فكان من رحمة الله بعباده أن بين لهم كذب هذه الطرائق، وبرحمته بين لهم شيئا مما يستقبلون بطريق شرعي قطعي تطمئن إليه النفوس، وتسد حاجة عندهم، بل ويثابون على الإيمان به.
يقول ابن خلدون: (اعلم أن من خواص النفوس البشرية التشوق إلى عواقب أمورهم وعلم ما يحدث لهم من حياة وموت وخير وشر سيما الحوادث العامة كمعرفة ما بقي من الدنيا ومعرفة مدد الدول أو تفاوتها والتطلع إلى هذا طبيعة مجبولون عليها ولذلك تجد الكثير من الناس يتشوقون إلى الوقوف على ذلك في المنام والأخبار من الكهان لمن قصدهم بمثل ذلك من الملوك والسوقة معروفة ولقد نجد في المدن صنفا من الناس ينتحلون المعاش من ذلك لعلمهم بحرص الناس عليه فينتصبون لهم في الطرقات والدكاكين يتعرضون لمن يسألهم عنه فتغدو عليهم وتروح نسوان المدنية وصبيانها وكثير من ضعفاء العقول يستكشفون عواقب أمرهم في الكسب والجاه والمعاش والمعاشرة والعداوة وأمثال ذلك ما بين خط في الرمل ويسمونه المندل وهو من المنكرات الفاشية في الأمصار لما تقرر في الشريعة من ذم ذلك وإن البشر محجوبون عن الغيب خلا من أطلعه الله عليه من عنده في نوم أو ولاية وأكثر ما يعتني بذلك ويتطلع إليه الأمراء والملوك في آماد دولتهم ولذلك انصرفت العناية من أهل العلم إليه وكل أمة من الأمم يوجد لهم كلام من كاهن أو منجم أو ولي في مثل ذلك من ملك يرتقبونه أو دولة يحدثون أنفسهم بها وما يحدث لهم من الحرب والملاحم ومدة بقاء الدولة وعدد الملوك فيها والتعرض لأسمائهم ويسمى مثل ذلك الحدثان وكان في العرب الكهان والعرافون يرجعون إليهم في ذلك وقد أخبروا بما سيكون العرب من الملك والدولة)، لكنه جل وعلا فتح لهم من هذا الباب ما يكون نافعا لهم في دينهم ودنياهم، ولا يدخل عليهم ضررا ولا يشغلهم عن دورهم الأساس ، جاء في مفتاح دار السعادة: (ولحكمة جليلة ضرب الله دون هذا العلم بالأسداد، وطوى حقائقه عن أكثر العباد، وذلك أن العلم بما سيكون ويحدث ويستقبل علم حلو عند النفس، وله موقع عند العقل، فلا أحد إلا وهو يتمنى أن يعلم الغيب، ويطلع عليه ويدرك ما سوف يكون في غد، ويجد سبيلا إليه ولو ذلل السبيل إلى هذا الفن لرأيت الناس يهرعون إليه، ولا يؤثرون شيئا آخر عليه، لحلاوة هذا العلم عند الروح ولصوقه بالنفس وغرام كل أحد به، وفتنة كل إنسان فيه، فبنعمة من الله لم يفتح هذا الباب، ولم يكشف دونه الغطاء، حتى يرتقي كل أحد روضه ويلزم حده، ويرغب فيما هو أجدى عليه وأنفع له إما عاجلا وإما آجلا فطوى الله عن الخلق حقائق الغيب ونشر لهم نبذا منه وشيئا يسيرا يتعللون به، ليكون هذا العلم محروصا عليه، كسائر العلوم ولا يكون مانعا من غيره).
ومما يؤكد هذا الأمر ويزيده وضوحا النظر في أحوال الناس وتفاعلهم مع أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة فإن مثل هذه النصوص الشرعية تستهويهم، والمتحدث بها ممن تلتفت الوجوه إليه وتلوى الأعناق لسماعه، فكيف إذا كان المتحدث ممن يرصد الأحداث وينزل الأحاديث عليها ويرسم لهم (سيناريو) المستقبل لا شك أن الأمر يكون أخطر وأخطر والفتنة به ستكون أشد وأشد، وعليه فلا يستغرب بعد ذلك أن يتابع الناس كل جديد في هذا المضمار حسنا كان هذا الجديد أو قبيحا، وما أكثر القبيح في هذا المضمار.


المقصود بتنزيل أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة على الواقع:

المقصود بهذه العبارة بإيجاز الحكم على الوقائع المعينة الماضية والحاضرة والمستقبلية بما تضمنته نصوص الفتن والملاحم وأشراط الساعة، بحيث يقال: إن هذه الواقعة المعينة في الخارج هي المقصودة بهذا النص، ويمكن أن يقال: إن نصوص الشارع في هذا المجال مطلقة فعملية التنزيل تقييد لها بشخصيات أو أوقات أو أمكنة أو أحوال معينة مخصوصة وهذا التقييد كما هو معلوم مفتقر للدليل، والدليل هو مدى انطباق هذه النصوص على تلك الواقعة، والله أعلم.

حكم تنزيل أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة على الواقع من جهة الأصل:

المقصود بإيراد هذه المسألة حل إشكالية تسربت عند البعض وهو إطلاق النفي في الحكم على هذه المسألة فتجدهم يقولون مثلا لا يشرع تنزيل أحاديث الفتن على الواقع، أو يحكمون على سالك هذا السبيل بالعبث بالنصوص والاشتغال بما لا يصح الاشتغال به، بحيث يردون على كل الكتابات التي اعتنت بتنزيل هذه النصوص على الواقع بهذه العبارات المجملة، وهذا من ردود الأفعال، وكم جر رد الفعل من رد حق، وهكذا الناس في أكثر شؤونهم طرفان ووسط، فطرف مغال في التنزيل يتخيل الأمر كيف يكون ثم ينزل النص عليه فيجعله كائنا، وطرف مجاف يحذر من التنزيل بإطلاق، والوسط وسط، فتنزيل هذه النصوص على الوقائع بضوابطه الشرعية مشروع، وعليه تصرفات جماعة أهل العلم في تناول أحاديث الفتن، تراهم إن وجدوا مناسبة للتنزيل نزلوا على ما سيأتي بيانه، بل لا تتحقق مقاصد ذكر هذه النصوص إلا بهذا التنزيل وبغيره تغدوا هذه النصوص ألفاظا لا تؤثر في واقع ولا تزيد في إيمان، وهذا التنزيل كما سبق له ضوابط شرعية يمكن استخلاصها من تصرفات أهل العلم وهي ضمانات لجعل التنزيل شرعيا، وبغيرها يكون التنزيل تحريفا يجب أن يحجر على أهله صيانة لنور العلم وبهائه، يقول الشيخ محمد إسماعيل المقدم تحت عنوان (لا يستنكر توقع حصول شيء من أشراط الساعة بشروط): (إنَّ تَرَقُّبَ حصول أشراط الساعة التي تقع بإرادة الله عز وجل الكونية القدرية ليس بدعة ولا خطأ، خاصة إذا تعاقبت الإرهاصات، والمقدمات التي جاءت بها الأخبار، ودليل ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم لما سمعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحدثهم عن الدجال فخفض فيه ورفع ظنوا أنه في طائفة النخل، وشكوا في ابن صياد أنه المسيح الدجال، بل منهم من أقسم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك، كما في الأحاديث الصحيحة عن عمر وجابر رضي الله عنهما، ورسول الله صلى الله عليه وآله سلم لم ينكر عليهم، بل قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن يخرج وأنا فيكم، فأنا حجيجه دونكم) وكذلك شكت فيه حفصة وابن عمر، وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم، ويروى عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: (ما تؤيسني رقة عظمي ولا بياض شعري أن ألقى عيسى بن مريم) ولا يزال العلماء في كل عصر ومصر يتكلمون بذلك، ويتوقعون قرب حصول بعض الأشراط، قال القرطبي رحمه الله: (كل ما وقع في حديث معاوية هذا، فقد شاهدناه بتلك البلاد، وعاينا معظمه إلا خروج المهدي) اهـ، وقال محمد صديق حسن خان: (... وهذه الجملة من الأشراط موجودة تحت أديم السماء، وهي في التزايد يوما فيوم، وقد كادت أن تبلغ الغاية، أو قد بلغت، ولم يبق إلا الأشراط الكبرى التي أولها ظهور المهدي عليه السلام). ولا شك أننا الآن أقرب إلى هذه العلامة من أي وقت مضى).
ومما يمكن الاستدلال به من السنة على مسألة تنزيل الأحاديث على الواقع ما وقع في حديث الرجل الذي يقتله الدجال فيقطعه جزلتين وفيه قول الرجل: (أشهد أنك الدجال الذي حدثنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه)، فهذا حكاية من النبي صلى الله عليه وسلم عن تنزيل حديثه على معين مخصوص.
ومن تتبع أحوال السلف الصالح وأهل العلم في مسألة التنزيل وجد من ذلك جملة وافرة، وسيرد في ثنايا البحث طرف من هذا لكن لا بأس من تعجيل واحدة منها هنا لتأكيد المسألة، فقد صح في حديث أسماء في قصة مقتل ابن الزبير قالت وهي تخاطب الحجاج: أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن في ثقيف كذابا ومبيرا، فأما الكذاب فرأيناه وأما المبير فلا إخالك إلا إياه، قال: فقام عنها ولم يراجعها.
قال النووي: (وَقَوْلهَا فِي الْكَذَّاب: (فَرَأَيْنَاهُ) تَعْنِي بِهِ الْمُخْتَار بْن أَبِي عُبَيْد الثَّقَفِيّ، كَانَ شَدِيد الْكَذِب، وَمِنْ أَقْبَحه اِدَّعَى أَنَّ جِبْرِيل صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِيه، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالْكَذَّابِ هُنَا الْمُخْتَار بْن أَبِي عُبَيْد، وَبِالْمُبِيرِ الْحَجَّاج بْن يُوسُف، وَاَللَّه أَعْلَم).
ولتطمأن القلوب إلى الحكم السالف إليك طرفا من تنزيلات بعض أهل العلم المعاصرين، فمنهم:
*الشيخ حمود التويجري رحمه الله فقد قال معلقا على حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن، ويكثر الكذب، وتتقارب الأسواق، ويتقارب الزمان، ويكثر الهرج) قيل: وما الهرج؟ قال: (القتل).
(وأما (تقارب الأسواق) فقد جاء تفسيره في حديث ضعيف بأنه كسادها وقلة أرباحها. والظاهر والله أعلم أن ذلك إشارة إلى ما وقع في زماننا من تقارب أهل الأرض بسبب المراكب الجوية والأرضية والآلات الكهربائية التي تنقل الأصوات كالإذاعات و التليفونات الهوائية التي صارت أسواق الأرض متقاربة بسببها فلا يكون تغيير في الأسعار في قطر من الأقطار إلا ويعلم به التجار أو غالبهم في جميع أرجاء الأرض، فيزيدون في السعر إن زاد وينقصون إن نقص، ويذهب التاجر في السيارات إلى أسواق المدائن التي تبعد عنه مسيرة أيام فيقضي حاجته منها ثم يرجع في يوم أو بعض يوم ويذهب في الطائرات إلى أسواق المدائن التي تبعد عنه مسيرة شهر فأكثر فيقضي حاجته منها ويرجع في يوم أو بعض يوم، فقد تقاربت الأسواق من ثلاثة أوجه :
الأول: سرعة العلم بما يكون فيها من زيادة السعر ونقصانه.
الثاني: سرعة السير من سوق إلى سوق ولو كانت مسافة الطريق بعيدة جداً.
الثالث: مقاربة بعضها بعضاً في الأسعار، واقتداء بعض أهلها ببعض في الزيادة والنقصان.والله أعلم).


*الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله فقد فسر تقارب الأسواق في حديث أبي هريرة السابق بقوله:
(الأقرب تفسير التقارب المذكور في الحديث بما وقع في هذا العصر من تقارب ما بين المدن والأقاليم وقصر زمن المسافة بينها بسبب اختراع الطائرات والسيارات والإذاعة وما إلى ذلك والله أعلم).
*الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله حيث ذكر أن (بيوت الشياطين) الوارد في حديث أبي هريرة الآتي هي السيارات ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تكون إبل للشياطين وبيوت للشياطين، فأما إبل الشياطين فقد رأيتها يخرج أحدكم بنجيبات معه قد أسمنها فلا يعلو بعيرا منها ويمر بأخيه قد انقطع به فلا يحمله، وأما بيوت الشياطين فلم أرها) كان سعيد يقول: لا أراها إلا هذه الأقفاص التي تستر الناس بالديباج.
ليس من شرط أشراط الساعة أن تكون قبيل قيامها بل يجوز أن تتقدم عليها بدهر وهو الواقع
قال ابن كثير: (والمقصود أن الترك قاتلهم الصحابة فهزموهم وغنموهم وسبوا نساءهم وأبناءهم وظاهر هذا الحديث يقتضي أن يكون هذا من أشراط الساعة فإن كانت أشراط الساعة لا تكون إلا بين يديها قريبا، فقد يكون هذا أيضا واقعة مرة أخرى عظيمة بين المسلمين وبين الترك حتى يكون آخر ذلك خروج يأجوج ومأجوج كما سيأتي ذكر أمرهم، وإن كانت أشراط الساعة أعم من أن تكون بين يديها قريبا منها فإنها تكون مما يقع في الجملة ولو تقدم قبلها بدهر طويل إلا أنه مما وقع بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو الذي يظهر بعد تأمل الأحاديث الواردة في هذا الباب كما سترى ذلك قريبا إن شاء الله تعالى).


وهذا رابط للتحميل الكتاب كاملا

http://3lsooot.com/book/save.php?id=333



هذا وبالله التوفيق